في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كانت
بغداد تزخر بالاطعمة الشعبية، حيث كانت اسعار المواد الغذائية رخيصة
وكنا نرى الباعة
الجوالين في محلات بغداد القديمة، نسمع نداءاتهم وهم يعلنون عن سلعهم من خلال اطلاق
عبارات أو جمل شعبية تعريفية، لها نغم، ولحن خاص يعرفها الناس آنذاك، ولكل بائع متجول
كلماته المعروفة، وعندما يسمع الناس عبارة (جاوش العشاء) عرفوا بانة بائع الفجل، واذا
سمعوا جملة ( ياكريم، لحم، لية، ولوز) عرفوا بأنه بائع كبة البرغل. مازالت الذاكرة
البغدادية تختزن صورا قديمة جميلة عن شخص بائع كبة البرغل، البغدادي الطيب النظيف بلباسه
وكبته وبكلامه الشعبي اللطيف، الصادق في عمله، يخرج صباح كل يوم يجوب الازقة والمقاهي
والمحلات، بلباسه الشعبي التقليدي (الصاية والجراوية) يحتذي الكيوة أو اليمني، ويتوزر
بـ (البشطمال الاحمر) وبحزام جلد عريض، حاملا قدر كبة البرغل فوق رأسه ويعلق في احدى
يديه زنبيل (سلة)، يضع فيها الصمون الحار ومواعين الكبة، وعلبة الفلفل الحار، ويغطيها
بقطعة من القماش أو(الخاولي)، حتى يحافظ على حرارة الصمون. تعد اكلة كبة البرغل (المدعبلة
والدائرية) آنذاك من الاكلات الشعبية البغدادية الشهية التي يحبها البغداديون، ويفضلون
تناولها في الغذاء، لأنها تسد رمقهم بما تحويه من لحم الغنم الخالص والبرغل والجريش،
وفي اغلب الاحيان تعمل كبة البرغل في البيوت البغدادية وعلى ايدي أهل الخبرة، فهناك
بيوت معروفة لبيع الكبة مثال على ذلك (كبة عمعم) التي تعمل في (بيت عمعم) الواقعة في
منطقة الفضل. وهناك صنف آخر من باعة كبة البرغل ، وهم اصحاب المطاعم حيث يقومون بعمل
كبة البرغل وبيعها في المطعم، ومثال على ذلك مطعم كبة السراي الشهيرة في شارع المتنبي
وكبة فتاح في الباب الشرقي. اما عن مشاهير باعة كبة البرغل القدامى في العشرينيات من
القرن الماضي ، فهناك بائعة كبة البرغل (زماوي )المرأة المصلاوية المعروفة التي كانت
تبيع الكبة في منطقة باب الاغا حيث كانت تسكن ، وفي جانب الكرخ بائع كبة البرغل المعروف
الحاج مرعي، حيث يقال بأن كبته كانت تعمل من العجين والسمن وتحشى باللحم المثروم وتطهى
في التنور وتباع في علبة من الخشب. ولا ننسى هنا ان نذكر بان اهلنا في الموصل بارعون
في عمل الكبة بأنواعها الكبيرة والصغيرة، حيث حازت كبة الموصل على شهرة واسعة؛ لأنها
تتميز بنكهة طيبة وشهية.. واليوم اذا ما اشتهينا كبة البرغل البغدادية الاصلية فأين
نجدها؟ نقول: اعملها، أغاتي، في بيتك، وأم البيت(ست الحبايب) ستبدع في عملها، بعد ان
تحضر لها لحم الغنم الخالص والبرغل وملحقاتها.. ثم اجمع عائلتك وكل معهم كبة البرغل
(مال البيت) وألف عافية،أغاتي ، وانس هموم الحاضر، وترحم على ايام زمان،ايام الماضي
الجميل، وتذكر، وانت تحتسي استكان الشاي، مقامات القبانجي، وكبة السراي الشهيرة التي
كانت عندما تفتحها بالشوكة، تشم منها رائحة زكية تصدر من حشواتها ثم تبدأ بأكلها مع
الصمون الحار، وبعد ان تنتهي منها يسمعك بائع الكبة كلمات لطيفة (بالعافية عيوني
... هني مري اغاتي )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق